فصل: تفسير الآيات (1- 14):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تيسير التفسير (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (31- 40):

{إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآَبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}
مفازا: فوزا عظيما بالجنة. كواعب: جواري صغيرات السّن، واحدها كاعب. أترابا: متقاربات في السن واحدها تِرب. دهاقا: ممتلئة، مترعة. لغواً: اللغو هو الباطل وكل ما لا فائدة فيه. كِذّابا: تكذيبا. عطاءٌ: تفضلا منه واحسانا. حسابا: كافيا وافيا. خطابا: مخاطبة. الروح: جبريل. مآبا: مرجعا. ما قدّمت يداه: ما عمل من خير أو شر.
بعد أن بيّن حالَ المكذّبين الجاحدين وما يلاقونه من عذاب أليم، ذكر هنا ما يفوز به التقاةُ من الجنات، ووصفها ووصف ما فيها. ثم ذكر أن ذلك عطاء لهم من مالِكِ السموات والأرض، عظيم الرحمة والإنعام، الذي لا يملك أحد من أهل السموات والأرض ان يخاطبَه في شأنِ الثواب والعقاب، بل هو المتصرِّفُ فيه وحدَه يومَ يقوم الروحُ والخَلق المقدَّس من عالَم الغيب والملائكة صفاً، ولا يمكن لأحدٍ ان يتكلّم الا من أذِن له الرحمنُ ونطق بالصواب، فقال: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً حَدَآئِقَ وَأَعْنَاباً}
ان للمؤمنين الذين اتقَوا وعملوا الصالحاتِ فوزاً كبيرا ونجاةً من العذاب، وظَفَراً بالجنة، التي تشتمل على الحدائق والأعناب وجميع ما لذَّ وطابَ من الثمرات، {وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} من جواري الجنة، عذارى متقاربات في السن. وهناك يشربون بكؤوس مملوءة من الذّ شرابِ الجنة، ولا يسمعون شيئاً من الباطل واللغو، ولا كذبا من القول.
وكل هذا الفضل والاحسان والنعيم: {جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً}
ينالونه تفضلاً منه وإحساناً جزاءَ اعمالهم الخيرة. فالله الّذي رضي عنهم هو ربُّ السموات والأرض الذي وسِعت رحمتُه كلَّ شيء ولا يملك أحد مخاطبتَه تعالى بالشفاعة إلا بإذنِه، يوم يقوم جبريلُ والملائكة مصطفّين خاشِعين لا يتكلّم أحدٌ منهم الا من أذِن له الرحمنُ بالكلام، ونطق بالصواب.
ثم بيّن الله تعالى أن ذلك اليومَ حقٌّ لا ريبَ فيه، {ذَلِكَ اليوم الحق}، حيث الناس فريقان: فريق بعيد من الله ومآله إلى النار، وفريق مآبُه القُرب من الله.
{فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً}.
بن يعملَ عملاً صالحا يقرّبه منه ويُحِلّه دارَ النعيم.
ثم عاد إلى تهديدِ المعانِدين وتحذيرِهم من عاقبة عنادهم.. بأنهم سَيَعلمون غداً ما قدّمت أيديهِم ويندمون حيثُ لا ينفع الندم. فقال في خاتمة هذه السورة الكريمة: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً}.

.قراءات:

قرأ الجمهور: {كذابا} بتشديد الذال، وقرأ الكسائي: {كذابا} بتخفيفها. وقرأ أبو عمرو: {ربُّ السموات والأرض الرحمن}، برفع {رب} و{الرحمن}، والباقون بالكسر. وقرأ عاصم وابن عامر ويعقوب: {الرحمن} بالجر. وقرأ حمزة والكسائي بجر {رب السموات}، ورفع {الرحمن}.
نسأل الله تعالى ان يثبّتنا بالقول الثابت، ويجعلَنا من الذين ينطقون بالصواب، ويهديَنا إلى العملِ بكتابه وسًنة نبيه، وان يجمع كلمتنا ويوحّد صفوفنا لنحميَ أنفسَنا ونصون أوطاننا مما يهدّدنا من الأعداء...

.سورة النازعات:

.تفسير الآيات (1- 14):

{وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)}
النازعات: الملائكة، أو الكواكب. غرقاً: بشدة. الناشطات: التي تنشط في اجابة أمر ربها. السابحات: الطائرات في هذا الكون الفسيح كأنها تسبح سبحا. السابقات: المسرعات في أداء ما وكل اليها. المدبّرات: التي تدبر الأمور بإذن الله. ترجُفُ: تضطرب. الراجفة: الأرض. الرادفة: السماء. واجفة: خائفة. خاشعة: ذليلة. الحافرة: الحياة الاولى، يقال رجع إلى حافرته: رجع إلى طريقته الأولى. النخِرة: البالية. كرّة خاسرة: رجعة يخسَر أصحابها. زجرة واحدة: صيحة واحدة. الساهرة: أرض المحشَر.
لقد جاء في القرآن الكريم ضروبٌ من القسَم بالأزمنة والأمكنة وبعض الاشياء، ولو استعرضْنا جميع ما أقسم الله به لوجدناه إما شيئاً أنكره بعضُ الناس، أو احتقره لغفْلتِه عن فائدته، أو ذُهل من موضع العبرة فيه، ولم ينتبه إلى حكمة الله في خَلْقه أو اعتقدَ فيه غيرَ الحق. فاللهُ سبحانه يقسِم به إما لتقرير وجودهِ في عقلِ من يُنكره، أو تعظيمِ شأنِه في نفسِ من يحتقرُه.
فالقسَم بالنجوم، جاء لأن قوماً يحقّرونها لأنها من جُملة عالَم المادّة ويغفلون عن حكمة الله فيها وما ناطَ بها من المصالح، وآخرين يعتقدونها آلهة تتصرّف في هذه الأكوان، فأقسَمَ اللهُ بها على أنها من المهلوقات التي تعرفُها القدرة الإلهية، وليس فيها شيء من صفات الألوهية.
ولقد بدأ اللهُ سبحانه هذه السورة بالحَلْف بأصنافٍ من مخلوقاته، إظهاراً لإتقان صُنعها وغزارة فوائدها بأن البعثَ حق، وأن من قَدر على صُنعِ هذا الكونِ وما فيه لهو قادرٌ على إحياء الموتى.
فأقسَم بالنازعاتِ، وهي الملائكةُ التي تنزع أرواح الكافرين بشدّة؛ والناشطات، وهي الملائكةُ التي تأخذ أرواحَ المؤمنين بسهولة ويسر؛ وبالسابحات التي تسبحُ في أجواء هذا الكون الفسيح، والسابقات وهي التي تسبقُ في أداء ما وُكِلَ إليها وتؤدّيه على أحسن وجه، والمدبّراتِ أي التي تدبّر الأمورَ بإذن الله وتصرفها بما أودع فيها من خصائص. ويقول بعض المفسّرين إن النازعات والناشطات والسابحات والسابقات والمدبّرات هي الكواكب. ونحن لا نستطيع أن نجزم بشيء من هذه الأقوال لأنها لا تستند إلى دليل.
{يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة....} يومَ تقوم القيامةُ تضطربُ الأرض بمن فيها وترجفُ الأرضُ والجبال.. وتتبعها الرادِفةُ، وهي النَّفخة الثانية، فتنشقّ السماء وتَنتثِر الكواكب ويقوم الناسُ لربّ العالمين. كما قال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ} [الزمر: 68]. ويكون الناس في ذلكَ اليومِ في ذهولٍ عظيم، وخوفٍ وهلع، كما صوّرهم الله بقوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ} [الحج: 2].
يومئذٍ يرى المرءُ قلوباً مضطربةً قلِقة خائفة {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} ذليلةً من الهلعَ والخوف.
ثم يتساءل المجرمون وهم يظنّون أنهم رُدّوا إلى حياتهم الأولى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً؟}
أنحنُ مردودون إلى الحياةِ، عائدون في طريقنا الأُولى؟! وهذا من شدّة ذهولهم ودَهشتهم كيف يرجعون بعد أن كانوا عظاماً بالية! ثم يعودون إلى رُشدهم فيقولون (بعد أن يعلموا أنها حياة اخرى ويشعروا بالخسارة) {قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} لم يحسِبوا حسابها، ولم يقدّموا لها.
ثم يأتي الرد الشديد من الله تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُم بالساهرة}
لا تستبعِدوا ذلك وتظنّوه عَسيرا علينا، فإنما هي صَيْحة واحدةٌ، وهي النفخة الثانية التي يبعثُ الله بها الموتَى، فإذا الناسُ كلّهم حضورٌ بأرض المحشر.

.قراءات:

قرأ الجمهور: {عظاما نخرة} بفتح النون وكسر الخاء، وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر: {ناخرة} بألف بعد النون.

.تفسير الآيات (15- 33):

{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآَيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآَخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)}
الواد المقدس: الوادي المبارك، طوى: اسم ذلك الوادي، وهو بين العقبة ومصر. طغى: تجاوز الحد فتكبر وكفر. تزكّى: اصلها تتزكى بتاءين: تتطهر من الشرك. أهديك: أدلّك. الآية الكبرى: العلامة الدالة على صدق موسى، وهي انقلاب العصا حية. أدبر يسعى: ذهب يدبّر المكايد لموسى. فحشر: فجمع السحرة. النكال: العذاب. رفع سَمكها فسوّاها: خلقها بأحسن نظام. أغطشَ ليلها: جعله مظلما. أخرجَ ضحاها: اظهر نورها وضياء شمسها. دحاها: مهّدها وجعلها قابلة للسكنى. مرعاها: نباتها. ارساها: أثبتها. متاعا: متعة ومنفعة لكم ولأنعامكم.
يذكر الله تعالى قصةَ موسى وفرعون تسليةً للرسول الكريم على ما يلاقيه من قومه، بحكْمِ تكذيبهم له وإنكارهم للبعث، وتماديهم في العُتُوِّ والطغيان. وذلك أن فرعون مع أنه كان أقوى من كفار قريشٍ وأشدَّ منهم شوكةً وأعظمَ سلطانا فإن الله أخَذه حينَ تمرد على ربه ولم يؤمن بموسى، فاحذَروا أن يصيبَكم ما أصابه. وقصة موسى وفرعون من أكثر القصص التي ترِدُ في القرآن في اساليب متنوعة. وهنا جاءت مختصرة سريعة في اسلوب استفهام رشيق مشوّق لتناسب طبيعة السورة.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى...} الآيات.
هل أتاك- يا محمد- حديث موسى مع فرعون، حين ناداه ربُّه في وادي طوى المقدّس في سيناء، حيث أمره أن يذهب إلى فرعون وقومه ليهديهم إلى الطريق المستقيم، بعد أن طغى واستكبر واستعبد الناس!
ثم طلب الله تعالى إلى موسى ان يُلينَ له القولَ فذلك أنجحُ للرسالة.
{فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى}
هذا كلام جميل في غاية الرقة واللطف. قل له يا موسى: هل ترغبُ أن تطهِّر نفسَك من الآثام التي انغمستَ فيها، وتعملَ بما أدلُّك عليه من طُرُق الخير، فترجعَ إلى ربك وتؤمن به، وتخشى عاقبة مخالفته.
ثم أراه الدليلَ الحسّيَّ على صدق نبوته {فَأَرَاهُ الآية الكبرى} وتلك هي قلبُ العصا التي معه حيّةً تسعى. فلم يقنع فرعون بما رأى وقال إنّ هذا سِحرٌ {ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى} في تدبير سحرٍ مثله، {فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} حيث جَمَعَ السحرةَ وخطب فيهم قائلا إنه هو الربّ الأعلى، لا سلطانَ يعلو سلطانه.
{فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى}. فعذّبه الله تعالى بالغَرَقِ في الدنيا، وبعذاب جهنم في الآخرة.. وفي هذا عبرة وموعظة لمن يخاف الله وله عقل يَتدبر وينظر في عواقب الأمور.
إن الله سينصرك يا محمد على قومك كما نَصَرَ موسى على فرعون، وكان أشدَّ بأساً وأكثر جنداً من قومك هؤلاء. فاتبع يا محمد نهج موسى، ولِنْ لهم في الحديث، واصبر فإن الفوز لك.
وبعد أن أورد قصص موسى وفرعون هذه عاد إلى مخاطبة الجاحدين المنكرين من قريش بأن من خَلَقَ هذا الكونَ العجيب الكبير وما فيه- لا يُعجِزه بعثهم من جديد بعد موتهم.
فإن كانوا قد غفلوا عن أنه خالقُهم، فلْينظروا إلى السماءِ والى الأرضِ ليعلموا من خَلَقَهما وانسأهما.
{أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا}.
أيّهما أعظم: اعادةٌ الناس كما بدأهم أولَ مرة أم إنشاء السماء في هذا النظام البديع الذي لا يختلف ولا يختلّ بل يسير فيه كل جرم في مداره! لقد رفع صانعُها أجرامها فوق رؤوسنا ووضعَ كل جرمٍ في وضعه.
{وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}.
لقد جعل ليلها مظلماً عندما تغيبُ الشمس، وأضاءها بشروق الشمس وارتفاعها وقت الضحى، وهو أشرفُ اوقاتها وأطيبها.
{والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}.
ثم بسط الأرضَ ومهّدها للسكنى وسيّر الناسَ والأنعام عليها. فلفظةُ دحاها تعني التكويرَ والبسطَ في ذات الوقت، فتكون أدلَّ الالفاظ على الأرض المبسوطة في الظاهر المكوّرة في الحقيقة.. وهذا منتهى الإحكام في اختيار اللفظ المناسب.
ثم بيّن ما لابد منه في تأتّي سكناها من أمرِ المآكل والمشارِب وإمكان القرار عليها فقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا}
فجّر منها العيون والينابيع والانهار لأن الماء أساس الحياة، {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء: 30]. وأنبت فيها النبات الذي يأكله الناسُ والحيوان. ثم بعد ذلك ثبَّتَ الجبالَ في أماكنها وجعلَها كالأوتاد، حتى تحفظَ توازن الأرض. وهذا كله جعله الله {مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ} أي لخيرِ الإنسان يتمتع به. فهل الذي أوجده وأنشأه أولَ مرة يعجز عن إعادته وإنشائه مرة أخرى؟ {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27].

.قراءات:

قرأ الجمهور: {تزكّى} بفتح الزاي من غير تشديد، وقرأ نافع وابن كثير: {تزكى} بتشديد الزاي، وقرأ أهل الحجاز والبصرة: {طُوى} بغير تنوين. والباقون بالتنوين.

.تفسير الآيات (34- 46):

{فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآَثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)}
الطامة الكبرى: يوم القيامة لشدة اهوالها ولأنها تطمّ على كل أمر هائل. وبُرّزت الجحيم: ظهرت للعيان. آثر: فضّل. المأوى: المستقر. مقام ربه: جلاله وعظمته. نهى النفسَ عن الهوى: استقام وكفّها عن هواها. الساعة: يوم القيامة. أيّان مرساها: متى تقوم وتحصل. إلى ربك منتهاها: عِلمُ حصولها عند الله. لم يلبثوا الا عشية أو ضحاها: عندما يرون يوم القيامة يظنون انهم لم يقيموا إلا عشيةً من النهار أو وقت ضحاه.
بعد أن ذكر الله تعالى خَلْقَ السموات والأرض وما في هذا الكونِ من إبداعِ عجائب الخلق والتكوين، وبيّن انه قادرٌ على نشر الأموات كما قَدر على خلْقِ هذا الكون العجيب- بيّن هنا صدق ما أوحى به إلى نبيّه الكريم من أن ذلك اليوم آت لا ريب فيه. فاذا جاءت الطامّةُ الكبرى في هولها العظيم، تُعرَضُ الأعمالُ على الناس، فيتذكر كل امرئ ما عمل. ويُظهِر الله الجحيمَ للعِيان فيراها كل إنسان. ومن ثم يوزَّع الجزاء على العاملين {فَأَمَّا مَن طغى وَآثَرَ الحياة الدنيا} وفضّل متاعها ولذائذَها على ثواب الآخرة، {فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى} حيث يجد مستَقرَّه ومأواه، {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى}، فآمنَ واستقامَ ونهى نفسَه عن هواها {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى}، حيث يجد النعيم الدائم.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا}.
يسألك قومك يا محمد متى وقت الساعة، ومتى وقوعها؟ إن هذا ليس من اختصاصِك، لا احدَ يعلم عنها شيئاً الا الله، فلا تشغل نفسَك بهذا الأمر ولا تكلّفْها عناءَ البحث عنه.
{إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا}
إنما أنت رسولٌ مبعوث للانذار والتعليم فدعْ علم ما لم تكلَّف به، واعمل ما أُمرت به. {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34]، {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأعراف: 187].
{كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}
ان يوم القيامة آت لا ريب فيه، ويوم يراه هؤلاء المكذبون يحسبون أنهم لم يلبثوا في الدنيا الا مقدارَ عشية يوم أو ضحاه، فما أقصرَ هذه الحياة التي يتقاتل عليها الناس ويلهثون وراءها!